الجمعة، 8 مايو 2020

زواج المسلمة من النصراني بين الهوى والشرع




زواج المسلمة من النصراني بين الهوى والشرع


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:
فما أكثر ما قرأنا وسمِعنا عن العلاقات الغرامية بين المسلمة بالمشرك، والأفدح من ذلك الزواج به! فهذا دليل على الأُميَّة الدينية في عقول المراهقين من الأُمَّة المحمدية من شبابنا من الجنسيين إلا من رحم ربي ولا بد من وقفة لبيان حقيقة هذا الحب وذاك الزواج؛ ليهلك من هلك على بينة، ويحيا من حي عن بيِّنة، ونبدأ ونقول بحول الله وقوَّته.

عفا الله عمَّن فعلت ذلك من نسائنا وبناتنا، وهذا أمر ليس غريبًا بل هو واقع مُرٌّ؛ كطعم العلقم بين كثير من الشابَّات، ومن المعلوم بالدين بالضرورة أن علاقة المرأة المسلمة بالنصراني محرَّمة شرعًا، والحب هنا إنما هو من كيد إبليس وتلبيسه؛ لهذا حذَّرنا الله تعالى منه؛ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21].

والمرأة المسلمة إذا تزوَّجت مشركًا وهي عالمة بالحكم، فهي زانية، والزواج فاسد، وهذا كلام كل أهل العلم بلا خلاف؛ لوجود نصوص من القرآن صريحة بالتحريم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 221]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10].

وما دام الله حرَّم زواج المسلمة المشركَ، وأباح العكس للضرورة؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5].

والمراد بالإحصان لنساء أهل الكتاب العفة من الزنا، وعلى الرغم من إباحة زواج المسلم بالكتابية، فهو غير مستحب؛ لأن الكثير من شبابنا في عصرنا هذا، يتَّصِف بالأُميَّة الدينية والخُلُقية معًا إلا من رحِمَ ربِّي، والحكمة من زواج الكتابية أن القوامة للرجل، وهو يقدر بقوة إيمانه وأخلاقه على أن يحببها في الإسلام؛ ولكن بسبب الأُميَّة والجهل بالشرع فضلًا عن سوء الخُلُق أخشى أن تبدِّل الكتابية دينَه بفتنتها وجمالها، وهذا واقع، وكم من شابٍّ تزوَّج كتابية، وداخ في محاكم بلادها؛ ليُثبت بنوَّة أبنائه منها، ومآسٍ غير هذا يعلمها القاصي والداني حتي قال الإمام مالك عن زواج الكتابية إنه "مستثقل مذموم" على الرغم أنه مباح في الشرع، فليس شبابنا في قوة وإيمان شباب الصحابة ورجالها، ولا من بعدهم، وأن عاد الدين قويًّا بشبابه وقوة إيمانهم بالله، فالشرع يبيحه ولا يُحرِّمُه؛ لأنه يعزُّ الإسلام ويزيده قوة، والهدف الدين وليس إشباع الشهوة بفتاة من فرنسا أو ألمانيا للتفاخُر، وأكثرهن نصرانيات بالاسم فقط، بل تجدهُنَّ وثنيات، وأصحاب فكر شيوعي إلحادي، وليس عندهُنَّ إيمان بالله، وقد ذهب جماهير أهل العلم إلى حِلِّ الزواج بالكتابية، وخالف في ذلك بعضهم، واستدلُّوا بما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما بما رواه البخاري في صحيحه، برقم (5285) "إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانيةَ أو اليهوديةَ قال: ((إن الله حرَّم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله)).

كما أن الشباب ينسى وصية رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوصاه بها، وهو قوله: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحَسَبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))، وقد رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ولا يخفى أن الكتابية بخلاف ذلك، بل الأدهى من ذلك أن كان الله تعالى يشترط أن تكون محصنة؛ أي: عفيفة، فحسب إحصاءاتهم الرسمية هذا نادر لطغيان الفاحشة فيهم، والحمد لله على نعمة الإسلام التي حفظت نساءنا وبناتنا العفيفات، حفظهُنَّ الله من كل سوء في كل عصر ومصر.

ونحن ننصح كل فتاة مسلمة يتَّجه تفكيرُها لعلاقة عاطفية مع مشرك: لا تلعبي بالنار، والفتنة أشَدُّ من القتل، وأسأل الله لك وللجميع الهداية، والعجب أن كان الحب بين مسلمة ومسلم لا رابط بينهما من صلة أي أجنبي عنها، ويقول بملء فيه: أشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويجاهر بها، وربما يصلي ويصوم ويعرف الله ويخافه؛ ولكنه في ضعفه وغلبة هواه، وتلبيس شيطانه يخلو بها ويبادلها مشاعره، ويراسلها على البريد أو يتصل بها بالهاتف، وربما ما هو أسوأ من ذلك، محرَّمٌ في ديننا، فما بالنا بالمسيحي المشرك الذي يقول: عيسى هو الله أو ابن الله؟ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقال تعالى : ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ))؛ رواه مسلم.

والحديث يدلُّ كما لا يخفى أن من بلغته دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن به فهو كافر بالله، من أهل النار يهوديًّا كان أو نصرانيًّا، والنصراني اليوم لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول من عند الله، وهو مفهوم عند العقلاء والفقهاء لوجود الدليل؛ ولكن غير المفهوم هو العلاقة الغرامية بين المسلمة والنصراني، ما الحكمة في استمرار هذه الحب الذي يُوقِظ فتنة قد تطول الجميع قطعًا ليس لتضييع الوقت والمزاح إلى آخره؛ بل للارتباط والزواج، والسؤال هو كيف؟
وتحريم هذا الزواج بين المسلمة والمشرك أمرٌ معلومٌ من الدين بالضرورة، ما الحكمة في استمراره؟
ربما تقول المسلمة: أنا أطمع في إسلامه ليحِلَّ لها، وتكون سببًا لذلك، ونقول لها: هذا كلام جميل في ظاهره الرحمة، وفي باطنه العذاب، وبيان ذلك ما يلي:
من المعلوم في دنيا الناس أن الوصول لذلك يحتاج لخلوة ومراسلة والكثير من المحرَّمات والتنازُلات، وما هو أسوأ مما ذكرنا، والحاصل كما لا يخفى على اللبيب حرمة الوسيلة لذلك، فضلًا عن أنها غير مضمونة، ولن يستمرَّ الأمر قطعًا إلى ما لا نهاية؟

وأقول لمن ابتليَتْ بحُبِّ المشرك: أختنا، قد تكون هذه حيلة منه أن ينطق بالشهادتين فيسلم ويحسن إسلامه ظاهرًا، وأنت لا تدرين حقيقة نيَّته، وبعد أن تقع الفأس في الرأس كما يقولون، وفي منتصف الطريق بلا أنيس أو جليس، فالكل سوف يتبرَّأ منك بالتأكيد، وعلى فرض صدق نيَّته وحبه، فهل يترك اهله ويفر معك كما في قصص الحب الذي ادمنها المراهقين وبينها وبين الواقع بعد المشرقين، كلا ورب الكعبة سيهلك معك، ولا أمل لكما حتى بالهرب وقطع الصلة بالأهل والأصدقاء والأحبَّة، ومن أجل ماذا؟
أختنا في الله، مَنْ حَامَ حول الحِمى يُوشِكُ أن يقع فيه، خصوصًا في العلاقات المحرَّمة مثل هذه.

وسئل الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله: ما حكم زواج المسلمة من المسيحي، وما حجم شرعية أبناء هذا الزواج، وما الحكم على المأذون الذي قام بإتمام هذا الزواج، وما حكم الزوجة لو كانت تعلم ببطلان هذا الزواج، وهل يُقام عليها الحدُّ الشرعي أم لا؟ وإذا أسلم الزوج فما حكم الزواج الأول؟ وكيف يتمُّ النكاح الجديد؟

فأجاب: يحرم على المسلمة نكاح النصراني وغيره من الكفار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ﴾ [البقرة: 221]، وقوله: ﴿ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10]، ومتى عُقِد له عليها وجب الفسخ فورًا، فإن علمت بذلك الزوجة، وعرفت الحكم استحقَّت التعزير، وكذا يُعَزَّر الوالي والشهود والمأذون إذا علموا ذلك، فإن وُلِد لهما أولاد تبعوا أُمَّهم في الإسلام، فإن أسلم الزوج بعد العقد جُدَّد له عقد النكاح، وذلك بعد التأكُّد من صحة إسلامه؛ كي لا يكون حيلة؛ فتاوى المرأة المسلمة (2/697).

ونصيحتي لبناتنا ونسائنا، أقول لكل واحدة منهُنَّ: لا يغرُّك المظاهر، وحذارِ أن تفتحي على نفسك بابًا من أبواب الفتنة! واحذري من فتنه يجرُّكِ إليها هذا المشرك، وهو ليس جاهلًا بالحكم، ويعلم ما يفعله قطعًا، ويطمع فيك؛ ولكنه مراهق مثلك لا يدري من دينه شيئًا، ولن يتوقَّف ويردعه دينه، فلا دين عنده إلا الشيطان والهوى مالم يهدهِ الله، والله أعلم بنيَّته ونفسه التي بين جنبيه؛ ولكن هو غير مأمون الجانب، فلا تتردَّدي في قطع علاقتك به؛ لخوفك من انكساره أو تجريحه، فليحدث هذا، فنفسك التي بين جنبيك أولى بالنجاة والتجريح يوم لا ينفع الندم بعد العدم.

وأقول لكل امرأة مسلمة أحبَّتْ مشركًا: كوني على يقين، وهذا من خبرتي في الحياة أن من هداها الله إلى نصفها الآخر وشريك عمرها، وهداه إليها أنه كما يقال النصيب في كلامنا؛ ولكنه كما لا يخفى بتقدير العزيز الحميد، فمن كان من نصيبك وحلالك في هذه الدنيا فسترين الأمور تسير بيُسْر وبحفظ الله وتوفيقه، وبمباركة الجميع، وما علينا إلا ابتغاء الأسباب الموصلة لذلك بما أحلَّه الله ورسوله، وأن تعسَّرَ الطريق، وخرجنا عن حدود الله، فإن التوفيق بينكما هو من تلبيس الشيطان كما قلت.

فليكن عندك إرادة وعزيمة واختاري بين رضا الشاب وعدم جرحه مع مباركة الشيطان وفتنة لا يعلم مداها إلا الله أو رضا الله، وهو الذي يُيسِّر لك الأسباب والمسببات أن ابتغيت رضاه بطاعته فيما أباحه، والحذر مما حرَّمَه لتنالي رضاه وجنَّته.

والأمر في يديك وحدك لتقرري أي الطريقين تختارين، أسأل الله أن يهديك ويعينك على الصراط المستقيم الذي به حياة القلوب حقًّا وصِدْقًا.

وقد تقول أحدهُنَّ: وإن أثبت هذا الشابُّ حُسْنَ النية، وكان فعلًا محبًّا للإسلام، وأسلم وأشهر إسلامه، هل يصحُّ تركُه في هذا الأمر وحده أم تقف بجانبه لتنصُره وتُعينه، وهي كانت سببًا لهدايته؟
وجوابنا عن ذلك الاحتمال لو ثبت حسن نيَّتُه وحُسْن إسلامه ظاهرًا وباطنًا بأن أشهره وصلَّى، وعمِل بما أمره الله به، وكان مُحِبًّا للإسلام ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما يُقال، فلا ريب أنه صار مسلمًا موحِّدًا مثلنا، لا فارق بيننا وبينه إلا بالتقوى والعمل الصالح، له ما لنا، وعليه ما علينا، وعفا الله برحمته عما سلف، فالإيمان يمحو الذنوب، والإسلام يهدُّ ما قبله، وإلى هنا والكلام لا غبار عليه وآلاف مؤلفة في أرجاء المعمورة يدخلون الإسلام في كل عصر ومصر، وهداهم الله للإيمان، كل ذلك بفضل الله، وله الحمد والمنة؛ ولكن مشكلة هذه المسلمة التي غرَّها الشيطان والهوى أنه تحبُّه على دينه ونحن نخشى أن يَغُرَّها بإسلام ظاهر خبيث؛ ليتزوَّجَها من خلف عيون الأهل وجهلهم بما تفعل ابنتُهم المراهقة.

وعلى فرض أنه صار مسلمًا حقًّا، والتزم بتعاليم الإسلام، وأشهر إسلامه فأمامه أمران:
الأول: أن يكتم إسلامه، ويتظاهر بالكفر أمام أهله، وحتى لا يُثير ريبة أهل الفتنة ومروجيها، وهذا مستحيلٌ في شريعتنا إلا للضرورة التي فيها الهلكة المتيقنة، وليس المتوهمة كقتله أو تعذيبه إذا كانت هذه الضرورة وهي تقدر بقدرها، فهو ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، ولتكن عبادته سريةً من صلاة وصيام ونحو ذلك، وقطعًا إشهار إسلامه هنا خطأ وخطر على حياته، هذا في حالة التيقُّن بالخطورة، فالأصل أنه يُجاهر بإسلامه.

ويأتي الجانب الثاني وهو الأهل: هل يقطع الصلة بهم بعد إسلامه، أما يستمرُّ في وصلهم كما يأمره الإسلام؟
وينبغي أن يتجنَّب الأعمال الشركية، ولا يشاركهم في الذهاب للكنيسة إلا خوفًا من شكِّهم، وليتجنَّب أعمالهم الشركية وغير ذلك بأي عذر، وإن انكشف أمرُه فلن يستطيع الردة، وإلَّا استحقَّ القتل شرعًا لردته، وله أن يكيِّف نفسه على مصائب ومشاكل جمة، فليس الثبات على اعتناق الإسلام من المسيحي أو المسيحية سهلًا في بيئة يشوبها التعصُّب والجهل والحمية الجاهلية للدين إلا من رحم ربي ممن هداه للحق والتعقُّل.

هذا وإن كان إيمانه وإسلامه قويًّا وحقيقيًّا سيصمد إن شاء الله؛ لكن لا يجب عليه أن يعلِن إسلامَه على الملأ ما دام سيتعرَّض لأذية من أهله أو غيرهم، ويكفي إسلامه سرًّا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾ [غافر: 28].

فهذا الرجل مؤمن بنصِّ القرآن مع أنه كان يخفي إيمانه عن فرعون وقومه؛ خوفًا على نفسه، وخلاصة القول هو إما أن يجهر بإسلامه وهو الأصل ويتزوَّج مسلمةً برضى أهلها ووليِّها مع علمهم بأنه غير مأمون الجانب، وإمَّا أن يكتم إسلامه ويسافر إلى مكانٍ بعيد، ويعيش مع زوجته وأسرته؛ تفاديًا للخطر والضغوط من الأهل وغيرهم، وحفاظًا على دينه الجديد، وجوابنا على هذا الاحتمال كسابقه إن رضي وليُّ أمرها فالأمر إليه، وكان إسلامه سرًّا وأشهره بحضور ولي أمر البنت وبعض المسلمين وحَسُن إسلامه بشهادة شهود وليس واحد أو اثنين، فيجوز ولكن في القلب من ذلك شيء، فكما لا يخفى في أوربا يذهب النصراني ويُعلِن إسلامه في أحد المراكز الإسلامية ويتزوَّج مسلمةً، وبعد فترة تفترُ عزيمتُه ولا يفعل ما يمليه دينه من واجبات وعبادات، وكل غايته أن يستمتع بها، والسؤال لكل امرأة رضيت بهذا الوضع وتلك الحلول، ماذا لو ظهرت رِدَّتُه - أي: ارتدَّ عن الدين- هل المسلمة العفيفة من الإيمان لتكشف أمره وتُفارقه لحرمة الاجتماع معه بعد أن رُزقت منه بالأولاد؟ الخطورة ستظلُّ، فالطبع في عصرنا هذا غالب على الإنسان، فإيماننا ليس كإيمان الصحابة، والزوج المسلم الموحِّد يُبارز الله بالمعاصي؛ ولكنه مع ذلك مسلم وزوجها شرعًا صحيح؛ ولكن النصراني الذي أسلم وتزوَّج مسلمةً ماذا لو ارتدَّ؟! ماذا تفعل الزوجة المسلمة؟ أنا أميل لزواجها من مسلم أفضل لها وأسلم في زماننا هذا، فلا يأمن جانبه وهو معها بعيدًا عن أهلها.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "فإذا كانت الكتابية معروفة بالعِفَّة والبُعْد عن وسائل الفواحش جاز؛ لأن الله أباح ذلك وأحلَّ لنا نساءهم وطعامهم؛ لكن في هذا العصر يُخشى على مَنْ تزوجهُنَّ شَرٌّ كثير؛ وذلك لأنهن قد يدعونه إلى دينهن، وقد يُسبِّب ذلك تنصُّر أولاده، فالخطر كبير، والأحوط للمؤمن ألا يتزوجها، ولأنها لا تؤمن في نفسها في الغالب من الوقوع في الفاحشة، وأن تعلق عليه أولادًا من غيره؛ لكن إن احتاج إلى ذلك فلا بأس حتى يعِفَّ بها فرْجَه، ويغضَّ بها بصره، ويجتهد في دعوتها إلى الإسلام، والحذر من شرِّها، وأن تجرُّه هي إلى الكفر أو تجر الأولاد"؛ انتهى من "فتاوى إسلامية" (3/172).

وعمومًا التجارب علمتنا هذا؛ ولكن لو استراح الأب، ورضِي بالمخاطرة لو انكشف الأمر، ويثق في ابنته لو ارتدَّ عن دينه، فلا يمنع فهو مسلم وهي مسلمة، والزواج تمَّ بأركانه وشروطه، وذهب بعيدًا لا يعلم أحد قصته كزوج وزوجة، ويمارس عباداته مع غيره من المسلمين بعيدًا عن عيون أهله ومَنْ يعرفونه، ولا يوجد مانع شرعي، ونسأل أن يدوم هذا بتوفيق الله ورعايته إنه وليُّ ذلك والقادر عليه،والحمد للهِ ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله وصحبه أجمعين.

وصيتي إلى ابنتي في ليلة زفافها






وصيتي إلى ابنتي في ليلة زفافها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد:
هذه وصيتي لكل امرأة مسلمة جاءها النصيب، وفي بداية الطريق لبناء عشِّ الزوجية، وقد كتبتها بمناسبة زواج أخت لنا في الله، وكانت وصيتي لها في ليلة زفافها، فهي كابنتي تحتاج إلى التوجيه والإرشاد؛ لما في الزواج والحياة الزوجية السعيدة القائمة على المودة والرحمة والحب والتفاني، مِن آثارٍ إيمانية طيبة على الذرية، وتوجيهها لتراعي الله تعالى وحدوده، وتلتزم سنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وما في ذلك من صلاح أفراد المجتمع كله، وبه تترقَّى الأمم وتسمو إلى آفاق عالية بقوة إيمانها وارتباطها بخالق السماوات والأرض ورازقهم جل وعلا، ورأيت نشرها لتستفيد بها كل أخت لنا في الله في ليلة زفافها، والله المستعان وعليه التكلان.

أختي الفاضلة، أو دعيني أقول ولي الشرف: ابنتي حفظك الله، أسألك: كم مرة دمعت عيناك لفرحة مسَّت قلبك الصغير، من أجل بُشرى خير لفرد من أفراد أسرتك الصغيرة؟ وكم دمعة من عينيك ذُرِفت لبلاء في الجسد أو النفس أو غير ذلك، لشخص عزيز عليك من أفراد أسرتك؟
وها أنت أخيرًا قد نضجت وأصبحت عروسًا، وسيكون لك بيتك وزوجك، لا يُشارككِ فيهما أحدٌ.

ابنتي الغالية، لقد أصبحت عروسًا.
آن الأوان لتحملي مسؤوليتك زوجةً ثم أُمًّا، وهي مسؤولية وربِّ الكعبة جسيمةٌ تحتاج إلى عزيمة لا تلين وشِحنة إيمان يَملأ قلبك؛ لتُحسني الظن بالله واليقين برحمته وقضائه، وهو أحكم الحاكمين.

ابنتي الغالية، لقد أصبحت عروسًا.
أعلم صعوبة الأمر ومسؤوليات الزواج وتبعاته على قلبك الصغير، ولكن مهما كانت مرارة الدواء فلا تستمرُّ مرارته دومًا، بل تتحوَّل رويدًا رويدًا حتى يصير للزواج حلاوةٌ ما بعدها حلاوة.

ابنتي الغالية، لقد أصبحت عروسًا.
هل تعلمين أعظم وصية زواج في تراثنا الذي نفخر به من أمٍّ لابنتها ليلة زفافها، حدث هذا لما خطب عمرو بن حجر الكندي إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أمَّ إياس، وأجابه إلى ذلك، أقبلت عليها أمُّها ليلة دخوله بها تُوصيها، فكان مما أوصتها به أن قالت:

أي بنية، إنك مفارقة بيتك الذي منه خرجتِ، وعشَّك الذي منه درجتِ، إلى رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمَةً ليكونَ لك عبدًا، واحفظي له خصالًا عشرًا يكن لك ذخرًا:

فأما الأولى والثانية، فالرضا بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة، فالتفقُّد لمواقع عينيه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلا أطيب الريح، وأما الخامسة والسادسة، فالتفقُّد لوقت طعامه ومنامه، فإن شدة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة، فالإحراز لماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وأما التاسعة والعاشرة، فلا تُعصي له أمرًا، ولا تُفشي له سرًّا، فإنك إن خالفت أمره، أوغرت صدره، وإن أفشيت سرَّه، لم تأمني غدره، وإياك والفرح بين يديه إذا كان مُهتمًّا، والكآبة لديه إذا كان فرحًا؛ فقبلت وصية أُمها، فأنجبت وولدت له الحارث بن عمرو جد امرئ القيس الملك الشاعر.

ابنتي الغالية، لقد أصبحت عروسًا.
لأنني أعتبرك كابنتي، فإليك وصيتي لك ولكل عروس في ليلة زفافها، لعلَّها تُنير بصيرتك لإدراك حقيقة مسؤوليتك زوجةً، وبيان ما لك وما عليك؛ لتستقيم حياتك في جنَّتك الصغيرة مع من اختاره الله تعالى؛ ليكون شريكًا لك في المسؤولية، والله المستعان.

ابنتي الغالية، حفظك الله، لقد أصبحت عروسًا.
وكوني على يقين بأن الزواج فطرةٌ طبيعيةٌ، وآيةٌ من آيات الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وزواجك مع من جمع الله بينك وبينه شريكًا لك في حياتك الزوجية بصرف النظر عما إن كنت تحبينه قبل الزواج، أو ما زلت مترددةً تجاهه لعدم معرفتك به على طبيعته التي جُبل عليها بعد كمِّ المجاملات والكلمات الحماسية والعبارات الرنَّانة والوعود المستحيلة، وهلُمَّ جرًّا.

ففي فترة الخطوبة -كما لا يخفى - لا يظهر المعدن الحقيقي لمن يتقدَّم إليك بالزواج، بل يتجمَّل ويتأنَّق لترضي به زوجًا، إلا من رحم ربي ممن رأى في الصدق مفتاحَ الفلاح والصلاح، وأبى التدليس والنفاق، وهم قلَّةٌ في زمن الغربة عن الدين الذي صار فيه الكذب صفةً حميدةً، والادِّعاء بالعلم والجاه والغنى، وغير ذلك مما يبتغيه أصحابُ القلوب المريضة - هو جواز القبول أو الرفض من أولياء الأمور، ومن كثير من النسوة الغافلات عن دينهن اللواتي غرَّتهن زينة الحياة الدنيا، وقد أوصى نبينا صلى الله عليه وسلم الرجلَ والمرأةَ بحسن الاختيار على أساس الدين والخلُق الحسن، وفيهما الكفاية لحياة زوجية سعيدة، تقوم على تعاليم الشرع، كما لا يخفى.

وعلى كل حال، فقد صار زواجُك أمرًا مقضيًّا بعد عقد النكاح، وصار من رضيت به زوجًا لك على شرع الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، له عليك حقوق، كما لك عنده حقوق.

ومن الخطأ وضعف الإيمان أن نعتبر الزواج لسبب من الأسباب بلاءً ونقمةً، بل هو ورب الكعبة نعمةٌ وآيةٌ من آيات الله، وهو راحةٌ للجسم والقلب، واستقرارٌ للحياة والمعاش، ومنبع المودة والرحمة، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، فكوني راضيةً بقضاء الله، واعلمي أن الحياة الزوجية لا تقوم على الحب وحده، بل على الاحترام، وتحمُّل المسؤولية، وهي حياة ليست سعادة دائمة، ولا شقاءً دائمًا، بل هي بين هذا وذاك!

ابنتي العروس الغالية، حفظك الله أوصيك:
إن دخل بك زوجك، فكوني له مُذكِّرةً وناصحةً، فقولي له: ألن تضع يدك على ناصيتي كما أمر حبيبنا صلى الله عليه وسلم وتقول: "اللهم إني أسألك خيرَها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرِّها ومن شرِّ ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيرًا فليأخذ بذِروة سَنامه، وليقل مثل ذلك"[1]، ثم تصلي بي إمامًا ركعتين شكرًا لله تعالى على نعمته وكرمه.

ابنتي العروس حفظك الله، أوصيك أن تكون الأيام السبعة الأولى من زواجك إن كنت بكرًا، أو الأيام الثلاثة الأولى إن كنت ثيبًا كما أوصى نبيُّك، فعنعن أنسٍ قال: ((مَن السنة إذا تزوَّج الرجل البكر على الثيب، أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم))[2].

وأوصيك أن تجعليها خطةً قصيرة المدى؛ ليرى شريكُ عمرك ورفيق دربك مِن عبير كلماتك ودلالك وأنوثتك ما هو به جدير، كوني له زوجةً مُحبةً وأختًا ناصحةً، وأمًّا عطوفًا، وابنةً لا تجادل ولا ترفض، ولكن تسمع وتطيع، ما لم يكن في معصية الله تعالى.

ابنتي العروس الغالية حفظك الله.
كوني لزوجك فقيهةً، تأمرينه بالصلاة على وقتها، والمحافظة على ترتيله للقرآن؛ لأنه حياة القلوب، فإن ماتت القلوب خربت البيوت.

ابنتي العروس حفظك الله:
عليك أن تعاهدي زوجك بالسمع والطاعة ما لم يكن في معصية الله، فقد أوصاك الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها))[3].

وطاعة زوجك أَولى من أداء النوافل، فاستأذنيه إن أردت الصلاة أو الصيام، فلا يصحُّ صيامُك أو صلاتك لنوافل الطاعات إلا بإذنه، وتذكري قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه))[4].

ابنتي العروس حفظك الله:
لا تنسَي عند العلاقة الحميمة هذا الدعاء: ((باسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رزقتنا))، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإنه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضرَّه شيطان أبدًا))[5].

وحذارِ من رفض دعوة الزوج إلى الفراش، اللهم إلا لمرض أو حيض، ويجوز لكما في فترة الحيض الاستمتاع دون الجماع، وتذكَّري قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فلم تأته فبات غضبانَ عليها، لعنتها الملائكة حتى تُصبح))[6].

وإياك وإفشاء أسرار الزواج والفراش بينكما، فذلك يُفسد زواجك، ولا تأمني غدره؛ لأنك أطعت الشيطان، بل أصبحت أنت شيطانة، وتذكَّري قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((عسى رجل يحدث بما يكون بينه وبين أهله، أو عسى امرأة تحدث بما يكون بينها وبين زوجها، فلا تفعلوا، فإن مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في ظهر الطريق، فغشيها والناس ينظرون))[7].

ابنتي العروس حفظك الله:
إن كنت قادرةً ماليًّا فلا تبخلي على زوجك وبيتك، فهما أَولى من غيرهما، وتذكَّري قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبةٍ، ودينار تصدَّقت به على مسكينٍ، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك))[8].

نعم، الإنفاق مسؤولية الزوج، ولو كانت الزوجة تعمل، ولكن لعلَّ الله تعالى يبارك لك في مالك وبيتك وزوجك، ولا يغيب عنك قولُه تعالى لمن ينفق ابتغاء مرضاته: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22].

ابنتي العروس حفظك الله:
كوني لزوجك ناصحةً ومربيةً في الحث على صلاة الفجر في وقتها وغيرها من الصلوات لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله رجلًا قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأة قامت من الليل فصلت، ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[9].

ابنتي العروس حفظك الله:
إليك سرَّ النجاح في العلاقة الزوجية، وإدخال السعادة على الزوج، عليك بكلمة طيبة أو بهدية رمزية قيمة، والصبر على أذيَّته، والتماس العذر له، ولك في رسولك أُسوة حسنة، فعن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنني لأعلم إذا كنت عني راضيةً، وإذا كنت عليَّ غَضبى))، قالت: وبمَ تعرف ذلك يا رسول الله؟ قال: ((إذا كنت عني راضية، فحلفتِ قلت: لا وربِّ محمد، وإذا كنت عليَّ غضبى، قلتِ: لا وربِّ إبراهيم))، قلت: أجل، ما أهجر إلا اسمك[10].

وعند غضبه وأذيَّتك بما لا تحبِّين، كوني صابرةً حليمةً؛ فهو قطعًا لا يقصد أذيتك، وتذكَّري حديث أمِّنا عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)[11].

ابنتي العروس حفظك الله:
زوجك جنَّتُك ونارُك، كوني له نعم الزوجة في بيته، وأكرمي مثواه، وليكن بيتك نظيفًا أنيقًا، طيب الرائحة؛ ليشعره بالراحة والسكينة، وتجمَّلي والبسي أجمل الثياب التي يحب رؤيتك فيها، وخارج بيتك احفظي نفسك وعرضه، وأرضِي ربَّك بلُبس الحجاب.

ابنتي العروس حفظك الله:
كوني حريصةً على نيل رضا أهل زوجك، وإن قطع زوجك رحمه فذكِّريه بثواب صلة الرحم وأنت غاضبة، وأظهري الاحتفاء بهم إن حضروا لبيتك، وأجيبي دعوتهم، واحضري مناسباتهم إن طلبوا ذلك، ولا تعيبي على أحدٍ منهم بسوء أمام زوجك؛ فيُغَمَّ قلبُه، ويَزيد همُّه وغمُّه.

ابنتي العروس حفظك الله:
لا تنشغلي عنه في وجوده، واعملي أعمالك المنزلية في غيابه، ولا تكثري من مكالماتك الشخصية مع صواحبك وتُهمليه؛ فرضاه من رضا ربِّك، وابتسمي دومًا في وجهه، وسارعي باستقباله في الدخول، أو بتوديعه عند الخروج من المنزل؛ ليشعر باهتمامك وشوقك، فيحرص على العودة اشتياقًا إليك وحبًّا لقربك، ولك ثواب الله تعالى، فقد أوحى لنبيه أن يقول: ((وحصَّنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت))[12].

وختامًا تذكَّري أن بيتك وزوجك هما مسؤوليتك أمام الله تعالى؛ فكوني خيرَ راعية لهما، وتذكَّري وصية نبيك صلى الله عليه وسلم: ((كلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته)) [13].

وأسأل الله تعالى أن يعينك لما يحبُّه ويرضاه، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وبارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.


[1] صحيح الجامع للألباني ح/ 342.
[2] أخرجه البخاري (5214).
[3] السلسلة الصحيحة ح/ 1203.
[4] أخرجه البخاري ح/ 5192.
[5] أخرجه مسلم ح/ 3606.
[6] أخرجه مسلم ح/ 3614.
[7] صحيح الجامع برقم/4008.
[8] أخرجه مسلم (995).
[9] صحيح سنن النسائي للألباني، ح/ 1610.
[10] أخرجه مسلم ح/ 6438.
[11] صحيح الترغيب للألباني ح/ 1924.
[12] صحيح الجامع (660 - 303).
[13] أخرجه البخاري (2409).

خواطر إيمانية


خواطر إيمانية
أنا مسلم وافتخر:
أنا مسلم وأفتخر، وليفتخر كل واحد منا بإسلامه وعظمة دينه وتعاليمه السامية من "القرآن والسنة" التي جعلت ديننا على مرِّ التاريخ الإسلامي منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها الشوكة التي تعيق كل كافر من الدعوة للإلحاد والكفر؛ لأن الإسلام يجعل العبادة والسيادة لله تعالى.

وأفتخر أن الإسلام الدين الوحيد الذي جاء بتشريع من الله تعالى خالق السماء والأرض، وخالق البشر، ورازُقهم، وهو الدين الذي ارتضاه للبشرية، فقال عز وجل: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].

والإنسان لن يستقيم أمرُه دون تشريع رباني يأمره بكذا وكذا ترهيبًا وترغيبًا، والتشريع جعل الفقير كالغني في الحقوق والواجبات والثواب والعقاب، فأنت تصلي وأخوك يُصلي، ربما كان أغنى منك مالًا أو أكبر منك سنًّا، أو أكثر منك علمًا، فهل تراه يصلي حسب مقامه، أم يصلي كصلاتك؟

وقسْ على ذلك كل أمر وطاعة، الكل يتساوى أمام الله، ولا فارق بين عربي مسلم وأعجمي مسلم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فاصدَع بها في الآفاق: أنا مسلم وأفتخر.

بر الوالدين ورضا الله:
الكثير من الخلق يبحث عما يرضي الله به عنه من أنواع الطاعات، ويلتمس مواسم الخيرات والأيام الفاضلة كرمضان وغيره؛ لينال رضا ربه، وأقول لهؤلاء: تدبَّروا يا قوم هذا الحديث عن جَاهِمَةَ رضي الله عنه جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: (فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا)؛ رواه النسائي (3104)، وحسنه الألباني.

واعلموا أن مَن له أبوان على قيد الحياة كلاهما أو أحدهما، ثم هو يبحث عن طاعة عظيمة يرضي بها ربَّه عز وجل عنه، فهو لم يعرف قدر هذه النعمة التي بين يديه.

التفاخر في دار الغرور:
إن التفاخر بالغنى أو الجاه أو الحسب والنسب في دار الغرور، سراب للغافلين، فبعد الموت يتساوى الجميع، فمن التراب خلَقنا الله، وإلى التراب نعود، ومن لا يصدق فليتدبر قوله تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55].

وقد أفلح من جعل نُصب عينيه - ليكبح نفسه ويروِّض شهواتها - قولَ الحق تبارك وتعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، وحديث الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم: "أَكثروا ذِكرَ هاذمِ اللَّذَّات؛ يعني الموتَ"؛ رواه الترمذي، وحسنه الألباني برقم/ 2307.

ولله در القائل:
تزوَّد من معاشك للمعاد
وقمْ لله واعمَل خيرَ زاد
ولا تجمَع من الدنيا كثيرًا
فإن المال يُجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيقَ قومٍ
لهم زاد وأنت بغيرِ زاد
♦   ♦   ♦
مشيناها خطى كُتبتْ علينا
ومَن كُتبت عليه خطى مشاها
وأرزاق لنا متفرِّقات
فمن لم تأته منها أتاها
ومن كُتبت منيَّته بأرض
فليس يموت في أرض سواها

البلاء يصقل الشخصية:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].

وقال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].

وأخبرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم بحقيقة البلاء والصبر عليه، فقال في الحديث الصحيح: (إن عِظم الجزاء مع عِظم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)؛ رواه الترمذي (2396 )، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

وكم مِن مبتلى في جسده أو ماله أو أهله، راح يشكو ذلك جهلًا منه بعظمة البلاء والصبر عليه!

إن الابتلاء يصقل الشخصية، ويظهر معدنها الأصيل، ويروِّض النفس على التواضع، ويزيد العبد قربًا من خالقه، ولولا الابتلاء لتكبَّر العباد بعضهم على بعض، وتقاتلوا على دار الفناء، وأفلح مَن أنار الله بصيرته وصبَر على بليَّته رضًا بقضاء ربِّه، وليتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِن أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)؛ رواه مسلم (2999).

زكاة الفطر بين النص الشرعي وأقوال الرجال


         
         زكاة الفطر بين النص الشرعي وأقوال الرجال

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:

فالمسألة التي يسأل عنها كل عام الجميع عن زكاة الفطر، تدور على الاختلاف الحاصل حول زكاة الفطر: هل يجوز إخراجها مالًا أم لا؟ أخرج البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ»؛ بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ، رقم 1503.

وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: "كنا نخرج زكاة الفطر من ثلاثة أصناف: الأقط، والتمر، والشعير"، رقم (985).

وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة الصيام من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وانظر صحيح المشكاة للألباني، رقم 4.

فأي خلاف يرد إلى الأصل والدليل الصحيح الصريح، ولا اجتهاد مع نص، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، وضاعت السنن، فهل هناك خلاف بأن الأصل إخراجها طعامًا.

وهل الخلاف في صحة الأحاديث في ذلك عن النبي؟ قطعًا لا، إذًا لماذا الخلاف أصلًا؟ لوجود بعض الآثار، ولأن الفتوى تختلف باختلاف الأحوال للضرورة والمصلحة الشرعية لمجتمع ما في كل عصر ومصر، مع الالتزام بروح النص الشرعي والرجوع للأصل عند الاختلاف.

وعلى سبيل المثال فقد رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم من أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال لأهل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: "ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة".

فهذه مصلحة راجحة، وليس هناك ما يمنع عند المصلحة والضرورة من إخراج النقود مكان الطعام في زكاة الفطر، إذا كان يترتب على إخراجها طعامًا مشقةٌ، ولا إنكار أن إخراجها مالًا عند الضرورة والمصلحة والمشقة تجوز، وهي تقدَّر بقدرها وفي الحديث: "مَن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات"؛ حسنه الألباني في الإرواء رقم، 843، فمثل ذلك الفعل لا يشك عاقل بضرورته، وأبو حنيفة رحمه الله وغيره من السلف أجازها على سبيل المصلحة ولم يقل أنها خير من الإطعام مع وجود الحاجة له، وسنة نبينا لا مجال فيها للهوى بلا مبرر شرعي، فلا تشريع إلا للرسول كما لا يخفى، فمعلوم أن ترك النصوص الصريحة الواضحة إلى الجواز والاستحسان لبعض الأثار والأقوال للعلماء المعتبرين، قد يصيب من قال به منهم، وقد يخطأ، ومن أصاب من أهل العلم المعتبرين له أجران، ومن أخطأ له أجر الاجتهاد، ونتفهم أن ذلك يجوز للضرورة والمصلحة في بعض الأحوال، واجتهاد العلماء الربانيين مُعتبر شرعًا، والضرورة تقدَّر بقدرها، ولكن ما يحز في القلب ويدميه أن يصبح الأصل وأوسعه وأيسره انتشارًا بين العباد عليه هو النقود، وهو اجتهاد قد يصيب، وصار الاستثناء هو الإطعام، وهو الثابت في السنة بلا اختلاف بين أهل العلم قاطبةً في أنه الأفضل والاحسن، والسنة الثابتة، وأن مَن أخرَجها طعامًا قد برِئت ذمتُه دون خلاف.

ونقول: إن الأدلة فوق كل اعتبار، والأصل إخراج زكاة الفطر طعامًا، وأبو حنيفة وعلماؤنا الأفذاذ مالك والشافعي وأحمد بن حنبل - عليهم سحائب الرحمة - شهد لهم الداني والقاصي بعلوِّهم وعلمهم في كل عصر ومصر، ونستطيع أن نقول أن العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
منهم من قال: لا يجوز إخراجها نقدًا، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

ومنهم من قال: يجوز إخراجها نقدًا، وهذا مذهب الحنفية.

ومنهم من قال: يجوز إخراجها نقدًا إذا اقتضتْ ذلك حاجة أو مصلحة، وهذا قول في مذهب الإمام أحمد، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

ولا شك عندنا أن أدلة إخراجها طعامًا هو الأرجح والأسلم والسنة المؤيدة بالأدلة الصحيحة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولقد قرأت كلامًا طيبًا لبعض الأفاضل، جاء فيه: إخراجها نقودًا مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فإنهم أخرجوها طعامًا برغم توافر المال حينذاك، وبرغم حاجتهم إليه، وقد كان مجتمعهم أشد فقرًا وحاجة من مجتمعنا اليوم، فلو جاز إخراج المال لبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لهم ولمن بعدهم.

وأضاف موضحًا الأسباب:
لأن الله عز وجل شرع أنواعًا للزكاة، ونص في كل نوع على إخراج أشياء من جنسه، فنص في الزروع على زرع، وفي المال منه، وفي الأنعام منها، وفي الكفارات على كسوة وإطعام وعتق رقبة، وفي الفطر على طعام، ولم يذكر معه غيره، فدل هذا التغاير على أن هذه النصوص مقصودة لله عز وجل، كلٌّ في موضعه.

لأن إخراج زكاة الفطر طعامًا ينضبط بالصاع، أما إخراجها نقودًا فلا ينضبط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عيَّنها من أجناس مختلفة وأقيامها - أثمانها - غالبًا مختلفة، فدل ذلك على أن القيمة ليست معتبرة، وأن المعتبر هو المقدار؛ أي: الصاع، وإلا فعلى قيمة (ثمن) أي شيء تحدد الزكاة؟ هل تحدد على قيمة الزبيب مثلًا أو القمح، وواضح فرق القيمة بينهما مع أن الكيل واحد، وهذا ما يوقع القائلين بالقيمة في تخبُّط؛ لأن إخراجها طعامًا يناسب كل زمان ومكان وحال، فما قيمة النقود في حال الحروب أو التضخم الاقتصادي أو الاحتكار، وارتفاع الأسعار والغلاء كما هو حاصل الآن؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ انتهى.

علينا اتباع النبي والحذر من مخالفة أمره، فهو أمر من الله تعالى، والآيات في ذلك كثيرة؛ منها: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]؛ قال السعدي في تفسيرها ما مختصره: فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة ﴿ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ﴾ من الأمور وحتَّما به وألزَما به، ﴿ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾؛ أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر الله ورسوله؛ ا.هـ.

والخلاصة أن الحكم ثابت وهو إخراج الزكاة صاعًا من طعام حسب أحوال كل بلد، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر؛ قال الإمام أحمد: "أخاف ألا يُجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: "لا تجزئ قيمة أصلًا؛ لأن ذلك غير ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وأختم هذه السؤال بكلام وتعليق منقول من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذا الموضوع إكمالًا للفائدة قال: "ولا عبرة بقول من قال من أهل العلم: إن زكاة الفطر تجزئ من الدراهم؛ لأنه ما دام بين أيدينا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لا قول لأحد بعده، ولا استحسان للعقول في إبطال الشرع، والله عز وجل لا يسألنا عن قول فلان أو فلان يوم القيامة، وإنما يسألنا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، فتصوَّر نفسك واقفًا بين يدي الله يوم القيامة وقد فرض عليك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن تؤدي زكاة الفطر من الطعام، فهل يمكنك إذا سُئلت يوم القيامة: ماذا أجبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في فرض هذه الصدقة؟ فهل يمكنك أن تدافع عن نفسك، وتقول: والله هذا مذهب فلان وهذا قول فلان؟ الجواب: لا ولو أنك قلت ذلك لم ينفعك، فالصواب بلا شك أن زكاة الفطر لا تجزئ إلا من الطعام، وأن أي طعام يكون قوتًا للبلد، فإنه مجزئ)؛ ا هـ.

ونكرر القول: نحن لا ننكر أن إخراجها مالًا قال به بعض أهل العلم والسلف، وليس أبو حنيفة فقط، فقد قال به من التابعين سفيان الثوري، والحسن البصري، والخليفة عمر بن عبدالعزيز، ورجَّحه ابن تيمية عند المصلحة - عليهم سحائب الرحمة - ولكن الجميع بلا خلاف على سنية الإطعام في زكاة الفطر، وأنه الأصل ومحل الخلاف بجوازها مالًا هو اجتهاد للمصلحة والضرورة، وليس كل الناس كذلك ليعم الجميع بلا استثناء، فالكل يريد إخراجها مالًا ليستريح من عناء إخراجها حبوبًا في زعمه، فمن المعلوم أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذا حق فقد يكون الطعام هو المصلحة في بلد تعاني من المجاعة، وقد يكون في المال في بلد يتوفر فيه الطعام، ويندر فيه المال لشراء ما ينفع الفقير، أما في مصر مثلا فالأفضل طعامًا، فغلاء الأسعار يقابله انخفاض قيمة المال، وخُذ على سبيل المثال أن لجنة الإفتاء جعلت نصيب الفرد ثلاثة عشر جنيهًا حدًّا أدنى لزكاة الفطر، ولا أحد يبحث عن الأعلى بل الأدنى، ولو كان عشر جنيهات إلا من رحم ربي، فماذا تنفع الثلاثة عشر أو حتى الخمسين جنيهًا، فالطعام أصبح أهم من المال في مجتمعنا، وليس العكس فتأمَّل!

فالرجوع للسنة هو الأصل، وصحيح أن الفتوى تتغير باختلاف الأحوال، ولكن هناك خلط في هذه المسألة يقع فيها كثير من الناس نبدأ بتوضيحه:
جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة; لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس، وبناءً على هذا التغير يتبدل أيضًا العرف والعادة، وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام"؛ درر الحكام 1/ 47، وانظر: القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي؛ للدكتور محمد الزحيلي ص: 319.

وقد نقل الزركشي عن العز بن عبدالسلام أنه قال: "يحدث للناس في كل زمانٍ من الأحكام ما يناسبهم؛ قال: وقد يتأيَّد هذا بما في البخاري عن عائشة أنها قالت: لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثته النساء بعده لمنعهنَّ من المساجد؛ أحدثته النساء: يعني من الزينة والطيب وحسن الثياب؛ شرح صحيح مسلم 1/ 329.

وقال ابن القيم بعد أن ذكر أن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، ما نصه: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيمٌ على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه - ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"؛ إعلام الموقعين 3/ 14.

ثم إن الإمام أبا حنيفة كما أجاز المال في زكاة الفطر، أجاز غير ذلك للحاجة والضرورة، وعلى سبيل المثال:
ما ذكره السرخسي أن الإمام أبا حنيفة في أول عهد الفرس بالإسلام، وصعوبة نطقهم بالعربية، رخص لغير المبتدع منهم أن يقرأ في الصلاة بما لا يقبل التأويل من القرآن باللغة الفارسية، فلمَّا لانت ألسنتهم من ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول؛ انظر: المبسوط 1/ 98.

وكذلك قول الحنفية: إن خاف - أي الرجل - من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان، فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها؛ قال ابن عابدين معقِّبًا على هذا: بأنه تقييد من مشايخ المذهب لتغيُّر بعض الأحكام بتغيُّر الزمان؛ رد المحتار10/ 242.

وبناءً على ما سبق يتبيَّن لك أن ضابط فَهْم هذه العبارة كما ذكر علماؤنا في أمرين:
أ‌- التغير في الفتوى لا في الحكم الشرعي الثابت بدليله.
ب‌- التغير سببه اختلاف الزمان والمكان والعادات من بلد لآخر.

والخلاصة أن الحكم ثابت وهو إخراج الزكاة صاعًا من طعام، والفتوى تتغير بخصوص الطعام حسب أحوال كل بلد، أما القول بأن ذلك يفتح باب الاجتهاد في الحديث كله، فغير صحيح، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر؛ قال الإمام أحمد: "أخاف ألا يجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذا مذهب مالك والشافعي، وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: "لا تجزئ قيمة أصلًا؛ لأن ذلك غير ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم". ونكرر أن إخراجها مالًا دون مبرر شرعي وضرورة أمرٌ مخالف للسنة الثابتة بعمل النبي وأصحابه من بعده.

هذه هي خلاصة المسألة، وهي أن الخلاف في زكاة الفطر معروف ومشهور بين أهل العلم، والصواب مع مَن يقول تُخرَج حبوبًا كما ثبَت بالنص والدليل، ولا يصح في حق النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنها تخرج من غالب قوت البلد، فالعبرة في سد احتياجات الفقير من الطعام، والعبرة عند الخلاف بما دل عليه الدليل، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.